لم يكن العيد هذا العام في قرية المدراء .. عيد بهجة وسرور .. ترتسم فيه البسمة على شفاه الأطفال والشيوخ، وتعم الفرحة البيوت والنفوس ... بل كان عيد خوف وترقب، نيران تشتعل ودخان يتصاعد يراه سكان بيشة من كل مكان بمباركة من الدفاع المدني في بيشة تكونت أكبر نافورة دخان في العالم ...!!
وامتدت النيران تطوي المزارع طيا، وتأكل الأخضر واليابس، وتنتزع الفرحة من قلوب أهل القرية لتزرع مكانها الخوف والهلع والترقب لجهود الدفاع المدني لإيقاف لهب النيران المتطاير من مزرعة إلى مزرعة ... دوووون جدوى !!
الوصول المتأخر العلامة البارزة لفرق الدفاع المدني في بيشة، لكن الوصول المتأخر قد يغتفر لو تم الإنجاز وإخماد النيران ... لكن ما حدث في حريق قرية المدراء يدعو لليأس بأن يتغير الحال في عمل الدفاع (المندي)!!
خمس وأربعون دقيقة هي المدة الزمنية لوصول فرقة الدفاع المدني من مركز سد الملك فهد والتي تبعد مسافة عن موقع الحريق من إدارة الدفاع المدني في بيشة، ولنا أن نتخيل حريق يبقى مشتعلا كل هذه المدة الزمنية في مزارع بها الكثير من الهشيم وسعف النخل اليابس والمتناثر في كل مكان والمزارع المتقاربة جدا جدا جدا !! وفضلا عن الوصول المتأخر لم يكن الوصول بحجم الحريق المشتعل ... فقد وصلت الفرقة التي تتكون من رجلي أمن ... وصهريج ماء فقط !! لتحاول إطفاء النيران بطريقة خاطئة ساهمت في تنقل النيران من مزرعة إلى مزرعة !!
إن مواجهة الأزمة وإدارتها تتطلب كوادر مدربة تدريبا عاليا على الطريقة الصحيحة للتعامل مع مثل هذه الأزمات حتى تتم السيطرة عليها في وقت قصير وبأقل خسائر، لكن ما حدث من تعامل رجال الدفاع المدني مع الحريق في قرية المدراء يثبت أنهم يجهلون أبجديات التعامل مع مثل هذا النوع من الحرائق وأنهم لم يتدربوا إلا على دوري كرة الطائرة ... ودوري أكل المكرمات !!
فكيف يتم إطفاء الحريق باتجاه الريح وباتجاه المزارع دون أن تتم محاصرة النيران وعزلها بطريقة علمية عن بقية المزارع بل أن التطفئة تمت باتجاه الريح وباتجاه المزارع حيث تسبب الماء المندفع بقوة نحو جذوع النخل في تطاير الشرار إلى المزارع القريبة وبالتالي اتسعت مساحة الحريق، وتنقلت بسرعة من مزرعة إلى مزرعة دون أن تجد الفرقة المباشرة لإطفاء الحريق الدعم من بقية فرق الدفاع المدني التي وصلت بعد خراب (المدراء) !!
إن طريقة توجيه خرطوم الماء نحو جذوع النخل باتجاه أفقي طريقة بدائية تسهم في تزايد الحريق وليس إخماده ...فالطريقة الصحيحة للتعامل مع حرائق النخيل والمزارع أن يتم توجيه الماء بشكل عمودي بحيث يسهم الماء في النزول على لهب النار من أعلى ويسهم في الإطفاء دون أن يتطاير الشرار على النخل المجاور أو المزارع المجاورة ... وقد تم التنبيه على رجال الدفاع المدني بهذه الطريقة لكنهم ردوا على من نبههم لهذا الأمر بقولهم : (نحن نعرف شغلنا)!!
وليتهم عرفوا شغلهم فقاموا به خير قيام ... بل شغلهم الذي يعرفونه جاء بالكارثة ... تنقلت النيران لتشمل جل مزارع قرية المدراء لتحرق أكثر من ثلاثة آلاف نخلة .. فضلا عن أنهم أحضروا ماطور إطفاء لا يعمل ... واستمرت محاولاتهم ساعات لكي يعمل هذا الماطور ... وبعد عناء اشتغل ... لكنه للأسف لم يدفع الماء !!
وفي ظل انقطاع التيار الكهربائي عن القرية من بعد الظهر إلى الساعة الحادية عشر مساء تكونت سحابة من الدخان غطت سماء المنطقة ... وحشرت الناس في القرية التي يسكنها العجزة والمرضى والفقراء والأطفال ... ولأن النوم في أجواء خانقة يعتبر خطرا على صحة الفرد ... تم الاتصال بإدارة الدفاع المدني في تمام الساعة الواحدة وتسع وأربعين دقيقة من بعد منتصف الليل في يوم العيد وتم التبليغ عن وجود اختناق في قرية المدراء والدخان حشر الناس في منازلهم ..مما يتطلب إخلاء الناس من منازلهم وخاصة الضعفاء والمرضى والفقراء وإيواءهم بعيدا عن الخطر المحدق بهم فكان الرد من أحد أفراد الدفاع المدني للأسف .. بأن على المرضى الذهاب للمستشفى وعلى غيرهم الذهاب للسكن في الشقق المفروشة !! ثم تضجر من المتصل وأقفل السماعة !!
كيف يكون الرد بهذه الطريقة ممن وضعوه ولاة الأمر ليكون بلسما على المواطنين يخفف آلامهم ويساعدهم في رد الأخطار عنهم .. هذه الطريقة التي تنم عن عدم توفر الحس الوطني والأمني والإنساني فيه .. وكأنه يمتن على المواطنين أن قدم لهم خدمة !!
ومع تزايد الدخان وكثافته اضطر الكثير من المواطنين إلى الخروج من منازلهم والسكن عند أقاربهم أو في الشقق المفروشة ... !!
ولأن مساحة الحريق أصبحت تنافس للدخول في موسوعة جينيس للأرقام القياسية .. فقد استمر الحريق لأيام، وفي يوم الأحد وبعد منتصف الليل اشتعلت النار في إحدى المزارع فاتصلت مباشرة بعمليات الدفاع المدني وأبلغتهم بذلك فرد علي رجل الأمن المناوب بأن الفرقة تتواجد في المدراء وعلي أن أبحث عنهم وأبلغهم بذلك .... حاورته قليلا لعلي أقنعه بأني لا أستطيع الوصول إليهم في ظل تعدد مخارج القرية ومداخلها وعدم معرفتي بمكان تواجدهم ... وأن عليه أن يبلغهم عن طريق عمليات الدفاع المدني ... تضجر مني وأغلق السماعة !! أي طريقة هذه التي يتعامل بها رجال الدفاع المدني مع بلاغات المواطنين .. هل وصل بهم الاستهتار وعدم المبالاة بصحة وأرواح المواطنين أن يتعاملوا بهذه الطريقة القاسية !!
ولأني أعلم أن هذا التصرف لا يرضي المسؤولين في الدفاع المدني اتصلت مباشرة بسعادة اللواء عبد الواحد مدير عام الدفاع المدني بمنطقة عسير وأخبرته بما حدث فوجدت فيه الرجل المسؤول الذي يقدر المسؤولية والذي يستشعر الأمانة الملقاة على الجهاز الذي يرأسه ويدرك الرسالة التي يقدمها الدفاع المدني خدمة للمواطنين واستجابة لنداء ولاة الأمر حفظهم الله ... وتفهم مني الوضع وطلب مني إرسال ملاحظاتي حول عمل الدفاع المدني لمتابعته ومحاسبة المقصرين !!
إن ما حدث في قرية المدراء وفي قرى بيشة من حرائق متتالية هذا العام وفي الأعوام السابقة في مزارع النخيل لم يكن باعثا لإدارة الدفاع المدني بتطبيق إجراءات وقائية صارمة على أصحاب المزارع بضرورة إزالة جذوع النخل والسعف والهشيم المتناثر التي تسهم في إحداث الحرائق مع متابعة تنفيذ ذلك وفرض عقوبات وغرامات على من لم يتجاوب مع هذا الأمر !!
كما أن الحرائق المتتالية في قرية المدراء تسجل في أغلبها على أنها عرضية، دون أن يكون هناك تحري وتحقيق لمعرفة أسباب الحريق التي ربما تكون .. بفعل فاعل !!
وأخيرا في نهاية هذا المقال فإني أبعث رسالة عتاب لمن تعلمنا منه الكثير والكثير، من صاحب القلم الذي يظهر الحقائق كما هي ... الأستاذ والصحفي الفاضل عبد الله آل قمشة .. والذي حرر خبرا في جريدة عكاظ العدد الصادر يوم الاثنين 4/10/1431هـ عن الحريق كان في جله تمجيدا وثناء ومدحا لرجال الدفاع المدني ... وليت أستاذنا استمع لشكاوى المواطنين ونقل معاناتهم مع الدخان والحريق وعرض لخسائرهم التي تكبدوها من جراء الحرائق المتتالية في مزارعهم حتى يتم تعويضهم .. وهذا عتب محب لرجل عرفناه نزيها وأمينا صاحب حس وطني وإنساني يسعى إلى الحقيقة ليظهرها ويكشف المستور !!